<H3 class=spip>تقديــــــــــمحكايات غريبة .. وقصص واقعية في ذاكرة الأمة لن تُمحى . . لأنها جزء كبير من التراث السياسي . . والنضال ضد هؤلاء الذين يحاولون دائماً أن يتسللوا الينا عبر المنافذ السرية داخل الكيان الإنساني.
تلك قصة هذا الجاسوس الذي أُسر فكرياً ووجدانياً.. وإنساق في إثر الموساد الإسرائيلي.
وهنا يكشف الكاتب فريد الفالوجي عن شخصية هذا الجاسوس العربي . .الذي هرب بطائرته الحربية الى إسرائيل تدفعه الطموحات المادية.. والإغراء بحياة جديدة حافلة بالمتع والدهشة.
ويبدو الهدف الحقيقي من فتح هذه الملفات أن الكاتب يُعرّي المواقف بكل جرأة . .ويكشف عن أعمق مواطن الخلل في الذهنية العربية . . التي كانت تقود الأمة خلال تلك الفكرة .. بغية التوصل الى أهداف جديدة. . وتحديد نظريات فكرية مبتكرة.. تتلاءم مع الواقع المعاصر الذي يعاني الاضطهاد .. والقهر.. ويستباح من قبل أعداء أمتنا.
وكذلك . . إنه تراثنا السياسي بكل ما ينوء به من ظلال الفساد أو الجريمة. . علينا أن نتفحصه. . وننقب في أوراقه الصفراء لدراسة الشخوص . . وأفكارها. . وأحلامها. . ومدى انتماءها الى الوطن والعقيدة والذات. .
إن القضية هنا هي إعادة بناء الذات من الداخل. . فقد تحطمت معاني في داخلنا. . وتهدمت أحلام جميلة . . وأصبحنا الآن نصافح الأيدي المخضبة بدماء شهداء الحروب. . ونتحاور معهم. . ولكن هناك خلف الحوار ما زالت كلمات تنزف. . وفي العيون ما زالت تبرق نوايا خفية تحلم أن تلتهم الشطآن والضفاف وتبيد في أعماقنا وردة النضال والتمرد والثورة. .ولذلك . .
نحتاج الى إعادة بناء الذات العربية. .وأن نُعمق هذي العلاقات الإنسانية بين العرب وأخيه العربي. .حتى يصبحا معاً قوة روحية ومادية في مواجهة الآخر المتحفز للانقضاض دوماً.
إن الكاتب يسرد الوقائع. . أموال . . دماء . . اغتيالات . . مطامع عدو يحيا في حياتنا. . ويحاول أن يزحف الينا ويغزو الفكر. . ويخلخل البنى الاقتصادية ويدمر الكيان الاجتماعي ويسلبنا هويتنا.
وقد يلجأ في ذلك الى تحويل الإنسان كشيء يُباع ويُشترى ويتاجر في أحلام الآخرين . . حتى يتلصص على إنجازاتنا الحضارية وقدراتنا العلمية ويخرب حتى النهاية.
ربما سقط البعض في براثن تلك الشباك الجاسوسية للموساد الإسرائيلي . . ولكن هناك من يقف يفكر . . ويتأمل . . ويتدبر . . ويناضل ضد القمع الإسرائيلي والفكر المخرب.
إن الكاتب قد تخصص حقاً في تسجيل قصص الجاسوسية . . وتميز ببراعة أسلوبه الشيق والتحليل الدرامي للأحداث. . وكذلك الصدق في التوثيق وطرح الرأي المستنير والفكرة العلمية الجديرة بالدراسة والبحث.
وهنا في هذه القصة الدرامية الخطيرة . . يشهر الكاتب سيف الإدانة ليس الى الموساد الإسرائيلي وحده . . وإنما أيضاً الى بعض الأنظمة العربية. . التي تمارس سيطرة القمع على أبناءهها فتشق بذلك جسور الولاء . . وتحطم في الروح قوى الانتماء العريق. . فيصبح الفرد مشوه الروح.. مجهول المستقبل . . يمشي في أرض من ظلام وظلم. . ويصبح من السهل أن يبيع ذاته ليس لإسرائيل. . وإنما أيضاً لشيطان الإرهاب والدمار.
الكاتب فريد الفالوجي لا يسرد حكايات الجاسوسية لتشعر باللذة الذهنية . . أو تُسجى وقت فراغك. . وإنما لتصحو . . وتدرك .. وتبحث . .وتعرف . .وتكون على حذر دائماً أن تقاوم في الداخل شياطين الظلم والإرهاب.. لتصبح أكثر قدرة على النضال من أجل وطنك ضد الأعداء في الخارج. ولو حولوا الثرى تحت أقدامك الى ثراء. . فأنت عظيماً في رفضك. . وقوياً في مواجهتك. . وانتماءك الى تراثك. . وأرضك. . وبلادك.
هذا ما يبحث عنه الكاتب أن يعيد الينا صدر الماضي . . وصفحات التاريخ لنتألم. . ونفكر ونتعلم الكثير والكثير.
أتمنى أن أكون قد استطعت تفسير ملامح هذه الكتابات . . التي تعد بحق سلسلة من الكتب السياسية الباحثة في أعماق الإنسان بصورة عامة.
وتحية حب صادقة لهذا المجهود الرائع الذي يثري المكتبة العربية .
علي عبدالفتاح صحافي . . وناقد
مدخـــــــــلفي الستينيات من القرن العشرين، كان الصراع على أشده بين القوتين العظميين، الاتحاد السوفييتي وأمريكا، ولم تكن هناك فرصة، ولو ضئيلة، لالتقاط الأنفاس داخل أجهزة مخابرات البلدين.
كان هناك أيضاً سباق محموم في تكنولوجيا التسلح، لأجل السيطرة، والتفوق، والتميز، والهيمنة.
فالسوفييت يلعبون بأوتار أحلام دول العالم الثالث، وتطلعاتهم نحو الاستقلال الاقتصادي والرخاء. والأمريكان، والغرب من خلفهم، يسعون للحد من المد الشيوعي، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، ويعملون على التغلغل داخل رؤوس قاطني الكرملين، هؤلاء الكهول ذوي الوجوه الجامدة الغامضة.
وكان من المنطقي، تبعاً للعبة المصالح، أن يتحول التنافس بينهما الى حرب خفية، يديرها رجال أذكياء مهرة، لاستكشاف نقاط الضعف والقوة، وصنع المستحيل للوصول الى أسرار الخصم.
فمنذ أن ضرب الأمريكان اليابان بالقنبلة الذرية، والروس لا ينامون أو يستقر لهم بال، وسعوا بشتى السبل للحصول على أسرار تلك القنبلة، وتصنيعها، الى أن تمكن روز نبرج، الشيوعي الأمريكي، مقابل ألف دولار، وبمعاونة زوجته، من سرقة ملف كامل عن المعادلات الكيميائية المعقدة، وتصاميم القنبلة، وسلمه للروس عام 1953 إبان حكم ستالين، ووفر عليهم بذلك سنوات طويلة شاقة من العمل والبحث والتجريب.
ولكي نتخيل ماهية أجهزة المخابرات في الاتحاد السوفييتي وأمريكا، ومدى ضراوة الحرب السرية بينهما، وأخطبوطية القوة فيهما، يجب أن نتعرض أولاً لإمكاناتهما البشرية والتقنية، وقدرة كل منهما على اختراق الآخر، وبالمقارنة بينهما ستتضح لنا الرؤية الحقيقية في النهاية.
فجذور المخابرات السوفييتية ترجع لأيام القياصرة، الذين أنشأوا ما يسمى بـ"البوليس السري" القيصري – شيبيكا – لحماية العائلة والنظام ضد الأعداء، وهم الشيوعيون، ثم انقلب الأمر بعد الثورة الشيوعية عام 1917، إذ انحصرت مهمة "شيبيكا" في مطاردة بقايا الأسرة القيصرية، وأعداء الشيوعية في الداخل، ومعارضيها الذين تمكنوا من الهرب الى الخارج.
ففي الداخل، تحولت البلاد الى ما يشبه معتقل كبير، وفُرضت حياة ونُظُم ومبادئ وجب على الجميع احترامها، وغص سجن "لوبيانكا" بالمغضون عليهم، وفي أقبييته وسراديبه كان المسجونون يغرّزون بالإبر تحت الأظافر، وفي الأماكن الحساسة، وكذا تخلع الأسنان بالكماشات، ويحبسون داخل أقفاص حديدية تتحرك قضبانها بواسطة تروس، فتضغط الأجساد وتطحنها عصراً، وتُقذف أوصالهم للكلاب. . وكان الجلادون يفخرون بقدرتهم على انتزاع اعترافات السجين بسهولة، حتى ولو طلب منه أن يعترف بأنه "ملك السويد"، أو رئيس الولايات المتحدة.
وفي عام 1954 جرى تطوير جهاز البوليس السري وتطهيره، وتصنيف إدارته وأقسامه، وأطلق عليه جهاز المخابرات السوفيتية K.G.B.، وتضاعفت أعداد مخبريه وأفراده، للدرجة التي قيل أنه من بين خمسة أفراد كان يوجد "مخبراً"، وبلغ عدد الموظفين به الى نصف مليون موظفاً، وأكثر من مليون عميل وجاسوس. أما الميزانية السرية للجهاز فقد تجاوزن وقتها العشرة مليارات دولار، للإنفاق على العملاء والعمليات والتطور التقني المذهل.
لقد سبقت الـ K.G.B. سائر أجهزة المخابرات العالمية، وتفوقت عليها في تقنية التجسس، وأساليب التخابر، وفن الجاسوسية الذي يدرس في أكاديميات متخصصة، وكانت المخابرات الأمريكية C.I.A. دئماً تسعى للحاق بها، وتستنزف في مواجهة نشاطها المضاد، واختراقاتها الأسطورية، إذ كانت الـ C.I.A. تحظى دائماً بالاهتمام الأعظم، وبالأولوية في عمل ونشاط الـ K.G.B. التي زرعت بأمريكا نفسها آلاف الجواسيس والعملاء، الذين امتزجوا بالنسيج الأمريكي في مهارة، جعلتهم ينقلون لبلادهم ابتكارات وتقنيات وأسرار استراتيجية غاية في الخطورة.
ولسنوات طويلة، اشتعلت حرب المخابرات والجاسوسية بين القوتين العظميين، وكان لا يكاد يمر شهر دون أن تقوم واشنطن بطرد دبلوماسيين سوفييت، تبين تورطهم في عمليات تجسسية، فترد موسكو بذات الأسلوب. بل إن عواصم الدول الغربية، تحولت هي الأخرى الى ميادين حرب سرية بين الجهازين العملاقين، وبرع رجال الـ K. G.B في اختراق نظم السرية والأمن، للسفارات الأمريكية في العديد من الدول، بواسطة نساء جميلات بارعات ماهرات، أقمن علاقات مع الحرس الأمريكان، فتحولوا الى جواسيس على سفاراتهم.
وعملية اختيار الجواسيس في الـK.G.B. تعتمد على تفريخ عدة معاهدة متخصصة، تقوم بتأهيلهم نفسياً وبدنياً وتقنياً ولغوياً على أعلى مستوى، ويكون اختيارهم للعمل داخل الدولة، أو خارج حدودها، طبقاً للمؤهلات الثقافية والعصبية لكل عميل.
أما المخابرات المركزية الأمريكية C.I.A.، فلم يكن لها وجود قبل الحرب العالمية الثانية، إذ كان هناك ما يعرف بمكتب الخدمات الاستراتيجية، وكان دوره محدوداً وقاصراً، ويفتقد الى الرجال الأكفاء والخبرة والتقنية، للدرجة التي أدت باليابان الى ضرب الأسطول الأمريكي في "بيرل هاربور" عام 1941، فمرغت كرامة أمريكا، التي لجأت لاستخدام القنبلة الذرية انتقاماً لكرامتها.
حينذاك .. لم تكن هناك تقارير تحليلية، أو تنبؤات محتملة، أو حتى أجهزة إنذار مبكر، ولذلك، أصيبت أمريكا بشلل تام في العقول، والتفكير، على غرار ما حدث في 11 سبتمبر 2001، وجاء الرئيس الجديد هاري ترومان (1945 – 1953)، فأسس جهاز الـ C.I.A. ، في سبتمبر 1947، وولى "آلان دالاس" رئاسته، فقفز به في غضون سنوات معدودة، الى قائمة أشرس أجهزة الاستخبارات على سطح الأرض، وأقواها.
فماذا فعل دالاس (2) .. ؟لقد تم اعتماد ميزانية ضخمة ، سمحت للجهاز بتوسل التكنولوجيا المتطورة العالية، واستيعاب 250 ألف موظف وعميل، انتشروا في سائر المعمورة فحسّنوا من فاعلية الجهاز وقوة تأثيره، ليُسقِطَ حكومات في جواتيمالا والكونغو وقبرص وإندونيسيا وإيران، وتندرج تحت أعماله "القذرة" تصفيات جسدية لرؤساء الدول، الذين "انحرفوا" عن الركب الأمريكي، فقد تم إعدام الرئيس الدومينيكاني "رافائيل تروجيللو" أمام قصر الرئاسة، بواسطة متفجرات حوتها الحقائب الدبلوماسية المغلقة، ومشى "هنري ديروبورن" القنصل الأمريكي – مخطط العملية – وراء نعش القتيل نيابة عن الرئيس جون كيندي، الذي في عهده أيضاً، اغتيل الرئيس الفيتنامي "نجودين دييم" بذات الوسيلة، بعد محاصرته في قصره، لأنه عارض تدخلات أمريكا في شؤون بلده.
الرئيس جون كيندي نفسه، لم يسلم أيضاً من جبروت جهاز مخابراته، إذ اغتيل جهاراً نهاراً وبتخطيط شيطاني، مازالت أسراره مكتومة الى اليوم. حتى الزعماء الذين نادوا بالاستقلال وبالحرية، طاردتهم المخابرات المركزية وتعقبتهم، وحدث ذلك في بوليفيا للزعيم الأشهر "تشي جيفارا" ، بينما نجا "فيدل كاسترو" من عشرات المحاولات لاغتياله، كذلك العقيد معمر القذافي الذي تحدى غطرسة الأمريكان والحصار الطويل.
ومن أبرز أعمال الـ C. I.A. القذرة، تعقب "العقول" وتصفيتها، كما جرى مع عالمة الذرة المصرية "سميرة موسى" عام 1952، والكاتب المكسيكي المشهور "إلما بويل بوينديا" الذي هاجم الدور الأمريكي المشبوه في أمريكا الوسطى، واشتراكها مع الموساد في اغتيال الطيار العراقي نقيب شاكر يوسف، وزميله حامد ضاحي، اللذين رفضا خيانة وطنهما برغم شتى الإغراءات. "سيجيء تفصيل ذلك بعد قليل".
وبامتلاك الاتحاد السوفييتي القنبلة الذرية، والرؤوس النووية للصواريخ عابرة القارات، وأسرار حربية يجهلها الأمريكان، سعت الـ C.I.A. لإماطة اللثام عن الابتكارات العسكرية السوفييتية، والوقوف على مراحل ومدى القدرة العسكرية والاقتصادية لروسيا، واشتدت حروب العقول السرية بين الدولتين لتصل الى الذروة في أول مايو عام 1960، عندما وقع حادث غريب هو الأول من نوعه.
ففي ذلك العام أسقط السوفييت طائرة تجسس أمريكية طراز U-2 (1)، التي تضم أحدث ما وصل اليه العلم من ابتكارات، أهمها كاميرات غاية في التعقيد، تلتقط الصور على ارتفاع آلاف الأميال بدقة متناهية وبوضوح مذهل، بينما تطير بسرعة ألف كيلو متر في الساعة.
كان قائد الطائرة – النقيب فرانسيس جاري بورز – مطمئن للغاية وهو يحلق في أجواء الاتحاد السوفييتي، فقد طمأنه رؤسائه أن لا الصواريخ ولا المدفعية المضادة تستطيع أن تلحق بطائرته الأذى. وبالرغم من ذلك، شملت أدواته الى جانب المسدس، كبسولة صغيرة معبأة بالسم، طلب منه أن يتناولها عند اللزوم. لكن بورز لم يفكر بالانتحار، وهو يقفز بالباراشوت ويمسك به الأهالي، ويعترف للسوفييت بأنه طار فوق أجوائهم مرات عديدة من قبل، وكانت مهامه الأساسية هي الحصول على صور لمواقع الصواريخ، والمطارات التي ترابض بها طائرات "ميج 21". . بالذات. (!!)
وكان السؤال:
لماذا الطائرات ميج 21.. ؟
ولماذا لا تكون طائرات السوخوي الاعتراضية Su-11 .. ؟
أو طائرات سوخوي المقاتلة STOL . . ؟
أو قاذفات توبولوف TU-16، التي طار تشكيل منها مكون من 54 طائرة فوق موسكو يوم الطيران السوفييتي عام 1959. . ؟
وفي الولايات المتحدة كان حادث إسقاط الطائرة U-2 (1) محيراً، فالطائرة بارتفاعها الشاهق كانت بعيدة عن صواريخ السوفييت الأرضية، وعن مجال صواريخ طائراتهم الاعتراضية أو القاذفة، ذات المدى المحدود في ذلك الوقت.
وبرغم تشكيك الأمريكان في قدرة السوفييت العسكرية، ظنوا بأن الطائرة ميج 21 – المجهولة بالنسبة لهم – أدخل عليها السوفييت تقنيات جديدة معقدة، فتفوقت بذلك على طائراتهم سكاي هوك SKY HAWK والفانتوم PHANTOM، بل وعلى الطائرات الفرنسية ميراج 3 MIRAGE – III – C الجبارة.
وفي الوقت الذي تأزمت فيه العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، خاصة بعدما قرر الرئيس الأمريكي "دوايت أيزنهارو" – (1953 – 1961) – أن الطيران فوق الاتحاد السوفييت هو من صميم السياسة الأمريكية، كانت المخابرات المركزية تسعى للتوصل الى أسرار تلك الطائرة الخرافة – ميج 21 – مهما كلفها ذلك. وكان من صميم عمل الـ C.I.A. أن تظل الولايات المتحدة في الصدارة عكسرياً، وسياسياً، واقتصادياً، وعلمياً. لكن التفوق السوفييتي في مجال الطائرات الحربية، كان يشكل كابوساً مزعجاً، ليس لأمريكا فحسب، بل لدول حلف الأطلسي، ولإسرائيل أيضاً.
فبينما تمد أمريكا إسرائيل بأحدث مبتكراتها التسليحية، لتكون لها اليد الطولى في الشرق الأوسط، زوّد السوفييت كل من مصر وسوريا والعراق بالطائرة – ميج 21 – فقلبت بذلك ميزان القوى عن آخره في المنطقة، ولوّح العرب بقوتهم وسيطرتهم على الأجواء، وبأن يدهم ستطول إسرائيل، وتقذف بها الى البحر.
هكذا تحولت منطقة الشرق الأوسط الى حلبة صراع بين القوتين العظميين، واستعراض للقوة التسليحية بين الشرق والغرب. . حيث كانت هناك رغبة ملحة، وجامحة، للحصول على إحدى طائرات الـ "ميج 21"، تهديها إسرائيل لأمريكا، من خلال تجنيد طيار عربي مغامر، يقبل الهرب بطائرته الى إسرائيل مقابل مليون دولار.
لكن . . قبلما نخوض في الخطط المخابراتية المشتركة بين الموساد والـ C.I.A. لاختطاف الميج 21، أرى أنه من الأصوب أن نستعرض أولاً تلك الطائرة اللغز، وقدراتها القتالية والمهارية الخارقة، التي حيرت العقول في أمريكا وإسرائيل، ودول حلف الأطلسي.
فالطائرة المقاتلة – MIG – 21 – حقق بها السوفييت أرقاماً قياسي لم تكن مألوفة من قبل، واعترفت بها المنظمة العالمية للطيران، إذ طار الكولونيل جورجي مرسولوف بطائرة من طراز – E-66 – وحقق بها معجزة عالمية للسرعة في أكتوبر 1959 ، مقدارها 2388 كيلو متراً في الساعة، طوال مسافة 15 الى 25 كيلو متر. وكانت الطائرة مزودة بمحرك توربيني نفاث، من نوع TDR MKR 37F.
وفي 28 أبريل عام 1961 تمكن موسولوف أيضاً أن يصل الى ارتفاع خارق، حطم به الأرقام العالمية، وبلغ 113.892 قدم، أي 34.714 كيلومتر – وهو رقم تعجيزي لم يتحطم أبداً لسنوات طويلة – عندما زُوّدت الطائرة بمحرك صاروخي إضافي مساعد. وخلال عرض جوي بمطار "دوموديدوفو"، قامت الطائرة ببيان عملي للإقلاع، وتفجرت مفاجأة صاعقة للعقول العسكرية في الغرب، عندما أقلعت الطائرة بعد مسافة جرى على الممر 150 متراً فقط، في حين أن الطائرتان الأمريكيتان سكاي هوك وفانتوم، تلزمها على التوالي مسافة 1445، 1525 متراً للإقلاع، أما المقاتلة الفرنسية – ميراج 3 – التي كانت تتباهى إسرائيل بامتلاكها، فكانت تحتاج لمسافة 1600 متراً لكي تقلع.
ليست هذه فقط كل ميزات الطائرة السوفييتية، فقد حققت أرقاماً قياسية أخرى مثيرة، اعتمدتها المنظمة العالمية للطيران، كالرقم القياسي للطيران بسرعة 2062 كم / ساعة في دائرة مغلقة طولها 500 كم، بقيادة الآنسة "مارينا سو لو كيافا"، ورقم قياسي آخر للطيران بسرعة 1298 كم/ساعة، في دائرة مغلقة طولها 100 كم حققته الطيارة "لدازا يتسيفا". وبلغت أقصى سرعة مستوية للطائرة 2 ماخ ، وكانت مقدار النصف، في ذلك الوقت، عند السكاي هوك، و 1.4 للفانتوم، و1.5 للميراج.
أما قياسات الطائرة الميج 21، فكانت أبعادها بالإضافة لإمكاناتها المذهلة – نقطة أخرى تضاف الى ميزاتها، ولغز تصنيعها العبقري المحير. إذ كان عرض أجنحتها 7.60 متر، وطول جسمها 16.75، وهو ما لم يتوافر لطائرات الولايات المتحدة العاملة أو طائرات فرنسا.
لكل ذلك. . تحولت الميج 21 السوفييتية الى لغز الألغاز، وتقف طائرات حلف الأطلسي أمام جبروتها عاجزة، مريضة، لا تقو على مجابهتها، أو الالتحام معها في معركة جوية. فالطائرة صممت كطائرة قتال قاذفة واعتراضية، يتمكن طيارها المتمرن من التحليق بها خلال ثلاثون ثانية فقط، واعتراض طائرات العدو والاشتباك معها بعد ارتفاعها مباشرة عن الأرض، وتمتلك قدرة عجيبة على الدوران في سرعة خارقة، وفي أي اتجاه، مما لا يتوفر لأية طائرة أخرى، بالإضافة الى سرعة انقضاضها المذهلة مع دقة الإصابة.
لكل هذه الميزات التي كانت موضوعة بين أيدي الطيارين العرب، وتفتقد اليها إسرائيل، كانت هناك رغبة عارمة، وتصميم أكيد، على تكشّف أسرار الميج 21 عن قرب، فقد رجحت كفة العرب بامتلاكها، واختل ميزان القوى في المنطقة، وتصور حكام إسرائيل أن نهاية دولتهم أصبحت وشيكة، إذا ما أقدم جيرانها على ضربها.
فهل رضيت أمريكا بعجزها أمام التفوق السوفييتي في تكنولوجيا الطيران..؟ وهيمنة العرب بالتالي على الأجواء في الشرق الأوسط. . ؟
بالطبع لا . فالصراع ما بين الشرق والغرب على الغلبة والتميز والسيطرة، صراع شرس لا يهدأ، وانتصار العرب على إسرائيل بالسلاح السوفييتي، معناه دحر السلاح الأمريكي والغربي، وهذا ما لم تقبله أمريكا.. أبداً.
لذلك.. كان هناك تنسيق مستمر بين الـ C.I.A. والمخابرات الإسرائيلية، لاختطاف إحدى طائرات الميج 21 العربية، للوقوف على خفايا قوتها، ونقاط الضعف فيها، بما يضمن تلافي خطرها، والعمل على تحديث تكنولوجيا الطيران لزيادة الكفاءة، والارتفاع بمستوى الفعالية القتالية الى مراحل متقدمة، تفوق النجاح السوفييتي وأدمغة خبرائه. وأخذت الحرب السرية تشتعل ضراوة وقسوة، خاصة بعد حادث إسقاط طائرة التجسس الأمريكية U.2 فوق روسيا، وتزامن كل هذا مع واقعة غريبة حدثت في القاهرة.
كان ذلك في نهاية عام 1961، عندما أعد الجاسوس المصري جان ليون توماس – وهو أرمني الأصل – وأعلن حينها على تجسسه لصالح الموساد، واعترافه أثناء محاكمته أن الإسرائيليون أغروه بمكافأة ضخمة، في حالة تمكنه من تجنيد طيار مصري، يقبل الهرب لإسرائيل بطائرته الميج 21، مقابل مليون دولار. وأن قائد سلاح الجو الإسرائيلي – عيزرا وايزمان – يلح في الحصول على هذه الطائرة التي يرعب بها العرب إسرائيل، وإهدائها سليمة للأمريكان لفحصها. لكنه – أي توماس – فشل في العثور على طيار مصري خائن، برغم الإغراءات الإسرائيلية التي كانوا يلاحقونه بها باستمرار.
لقد وضعت في إسرائيل تصورات لعدة طرق مختلفة، اشترك فيها رؤساء أجهزة الاستخبارات والخبراء المعنيون، وبعض ضباط الـ C.I.A، للحصول على الميج 21 المتقدمة، طرحت من بينها فكرة اعتراض طائرة مصرية أو سورية، وإجبارها على الهبوط في إسرائيل، لكن رُفضت الفكرة، لأن إسرائيل لم تمتلك طائرات تماثل الميج 21 قوة، وعرضت آراء توضح أن الطيارين العرب تمرنوا على قيادة الميج بمهارة، تضمن لهم التفوق والغلبة في حالة اعتراض تشكيل جوي إسرائيلي، وبالتالي ستكون الخسارة في الطائرات الإسرائيلية وطياريها، هزيمة ساحقة سيتغنى لها العرب.
وكانت الفكرة الثانية، فكرة غبية، يستحيل تنفيذها على أرض الواقع، وهي السعي لزرع عميل طيار في أحد أسلحة الجو العربية، وبعد مناقشات حامية، رفض الاقتراح أيضاً، فقد كانت نسبة نجاحه لا تتعدى 1%، بالإضافة الى أن الأمر قد يستغرق سنوات طويلة، وهذا ليس من صالحهم.
لم يكن أمامهم إذن إلا اقتراح واحد، أجمعوا عليه بلا استثناء، وهو تجنيد طيار عربي وإغراؤه بمبلغ كبير، للهرب بطائرته الى إسرائيل. كان الأمر يحتمل النجاح بنسبة 25%، لكن المشكلة كانت في عامل الوقت، فالمنطقة العربية كانت في حالة غليان، والحرب قد تقع في أية لحظة فجائية، إذا ما أنهى عبد الناصر حرب اليمن منتصراً، وعادت قواته الى الجبهة أكثر تمرساً، وعطشاً الى الحرب، تساعدها السيطرة الجوية، والتفوق العددي، والروح المعنوية العالية والإحساس بنشوة الجهاد.
من هنا. . اتفق الجميع في إسرائيل من رجال المخابرات العسكرية، والموساد، وخبراء العمليات الحرجة، وضباط الـ C.I.A.، على ضرورة التنسيق المعلوماتي والاستخباراتي، من أجل تحقيق الهدف الحلم.
ولم يكن الأمر سهلاً البتة، إذ واجهت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية مشكلة إغراء طيار عربي، نظراً لأن الحكومات العربية توفر لطياريها حياة هادئة، وتمنحهم وأسرهم تسهيلات عديدة في التعليم والعلاج، وتضمن لهم راتباً عالياً يفوق أقرانهم الضباط في الأسلحة الأخرى، فأبعدتهم بذلك عن أية توترات، تتصل بالمعيشة أو بالمستقبل، وأغدقت عليهم رعاية خاصة، ووضعية تحيطها هالة من وقار، سدّت بها كل الحيل أو الثغرات التي يمكن الوصول اليهم من خلالها.
وبالرغم من الصعوبة القصوى التي واجهت أجهزة مخابرات إسرائيل، إلا أن رجالها لم ييأسوا في السعي الى مبتغاهم، لإنجاح التصور الأخير الذي كانت نسبة نجاحه الكبيرة مغرية، إذا ما توافرت عدة أشياء حيوية للغاية، أهمها جمع أكبر قدر من المعلومات، الاجتماعية والسلوكية، عن الطيارين العرب في مصر وسوريا والعراق، واللعب على وتر الأقليات والعقائد.
هكذا نشطت لديهم الفكرة، وشرعوا في البحث عن كل معلومة – ولو كانت تافهة – عن طياري الدول الثلاث، من خلال عملائهم في العواصم العربية، ومن خلال ما تنشره الصحف العربية في صفحات النعي والاجتماعات.
ولأجل هذا ..استحدثت المخابرات الإسرائيلية بشتى أجزتها، وإمكاناتها، أجهزة كمبيوتر جبارة، حوت ملفات عن مئات من الطيارين العرب، حتى أن المسؤولين عن هذه الملفات، أجادوا تصنيفها، بالشكل الذي يتمكنون بواسطته من تحليل هؤلاء الطيارين نفسياً، وأيديولوجياً، واجتماعياً، والتغلغل الى أعماقهم في سهولة، من خلال فريق عمل يضم أبرز أساتذة علم النفس.
وحمى وطيس المعركة.. فتعالوا نقلب معاً ملف الحرب السرية، ونتعرض على غرائب ذلك العالم الغامض، عالم المخابرات والجاسوسية. . !!
تلك الخرافة الملعونة . . نريدها . .
نريدها سليمة في أزهى ثيابها وحُلّيها. .
لنزيل بها حاجز الخوف القابع بصدور طيارينا ..
ونتحسس ملكاتها الأسطورية التي يخيفنا العرب بها.
فبامتلاكها . .
سوف نضمن الغلبة لإسرائيل . .
ونُؤمّن بذلك مستقبل دولتنا . .
وأولادنا . .
الى الأبد . . !!
"ديفيد بن جوريون"
بين هاريل وعاميتفي بداية الستينيات من القرن الماضي، كانت أجهزة المخابرات الإسرائيلية تعاني خللاً متصاعداً منشؤه تعارض المهام والاختصاصات، ذلك أن رئيس الموساد – ايسير هاريل – والمقرب جداً لرئيس الوزراء، كان يفرض هيمنته أيضاً على جهاز المخابرات العسكرية – أمان - ، في الوقت الذي كانت فيه "أمان" تعاني من مشكلات أخرى عديدة، تعوق نشاطاتها وتحد من انطلاقها.
فحتى ذلك الوقت، كان قد تولى رئاستها أربعة جنرالات، استبعد ثلاثة منهم وأجبروا على التخلي عن المنصب، أيسير بيري كان أولهم عام 1949 لانتهاكات حقوق مدنية، وجاء من بعده بنجامين جيبلي عام 1955، الذي أبعد إثر فضيحة لافون في مصر، ومن بعده ياهو شافات هاركابي عام 1958، لسوء إدارته في عملية تعبئة لاحتياطي الجيش.
أما رئيس أمان الرابع، الجنرال حاييم هيرتزوج ، فقد فضل أن ينسحب بعدما فشل في إبعاد هاريل عن جهازه، محتجاً على سكوت رئيس الوزراء – بن جوريون – إزاء تدخلات هاريل.
وباستقالة هيرتزوج في فبراير 1962، فكر بن جوريون في مائير عاميت، الذي كان وقتها جنرالاً في جيش الدفاع، ورأى أنه الأنسب لرئاسة المخابرات العسكرية، بيد أن أيسير هاريل اعترض بشدة، ربما لمعرفته بمكانة عاميت ونفوذه داخل الجيش، وربام أيضاً لتخوفه من نوايا بن جوريون، حيث اتجهت ظنونه الى أنه يعده خلفاً له، خاصة وأن علاقته برئيس الوزراء آنذاك كانت قد تضاءلت، وأحاطها الفتور.
وباستماتة حاول هاريل إقناع رئيس الوزراء بخطورة اختيار عاميت، كجنرال عسكري يفتقر خبرة رجل المخابرات، لكن بلا فائدة.
من جهته، انتاب عاميت القلق المصحوب بالتوتر، ذلك لأن جهاز أمان كان في حالة من عدم الاتزان، وتسوده العلاقات الخاصة والمصالح، مما أثر على مهامه في خدمة الدولة، ونأت به الى مهام أقل أثراً بسبب نفوذ هاريل، فضلاً عن أنه – أي عاميت – كان يفضل الحياة العسكرية، والزي العسكري، ولم يتعود بعد على الحياة بالزي المدني، قابعاً خلف المكاتب والأوراق.
لكن ما إن تولى عاميت منصبه، حتى سعى للالتقاء بهاريل في محاولة جادة لتوطيد علاقته به، لتخفيف حدة الكراهية والتنافس بين الجهازين.
وفي اجتماع مطول ضمهما، أكد عاميت على ضرورة نبذ الخلافات، والتنسيق المشترك بينهما فيما يتعلق بأمور الدفاع عن الدولة، موضحاً أن عمل الجهازين يصب في النهاية في بوتقة واحدة، تخدم أمن إسرائيل ومصالحها، وتوجا الاجتماع بالاتفاق معاً على ضرورة التعاون الوثيق، لتحقيق حلم امتلاك طائرة ميج 21 عربية.
لكن الخلافات ما لبثت أن اشتدت بين رئيسي الجهازين، وهي خلافات بعيدة عن الهدف المرسوم، سببها التعارض في أسلوب التطبيق الفعلي للعمليات.
فهاريل رئيس الموساد كان منسقاً بارعاً، ومحللاً فذاً، بينما كان عاميت عبقرياً في الاستراتيجية العسكرية. لذلك اصطدمت رؤيتيهما الخاصة لمعالجة الحدث، وبدا كلاهما مختلفاً في معايير الدراسة والتخطيط.
ففي حين انشغال عاميت بفهرسة قوائم الطيارين العرب، وتحليل البيانات والمعلومات التي يتوصل اليها أولاً بأول، آثر هاريل أن يجوب عواصم أوروبا بحثاً عن طفل يهودي مختطف ، وينام داخل سيارته يرتجف من البرد، معرضاً أمنه الشخصي للخطر، وهو يقود فريقاً من أكفأ رجاله دون أدنى أمل، مهملاً أموراً أعظم أهمية تتطلب وجوده في إسرائيل، الى أن تفجرت قضية العلماء الألمان في مصر، عندما ألقى القبض في سويسرا على عميلين للموساد هددا ابنة عالم ألماني يعمل في القاهرة، وكانت فضيحة مدوية، بسببها تهددت العلاقة الدبلوماسية بين بون وتل أبيب، ووقعت الكارثة على رأس هاريل كالصاعقة.
وفي 26 مارس 1963، كان عاميت في مهمة خاصة، عندما طُلب منه أن يتصل على وجه السرعة برئيس الوزراء، وبعد ثلاث ساعات وصل عاميت لمكتب بن جوريون في كيريا بتل أبيب، فصافحه ببشاشة وأطلعه على استقالة هاريل وبموافقته عليها، ودون أن يسأله عن رأيه فاجأه بقوله:
"أنت رئيس الموساد المقبل، وسوف تكون مسؤولاً فقط عن التجسس في الخارج. أما مكافحة التجسس في الداخل فمن مسؤولية الشين بيت .
لم يكن مائير عاميت يصدق ما يسمعه، إذ ألجمته الدهشة ولم يعلق سوى بهمهمة غير مفهومة، ثم تمالك زمام نفسه أخيراً، وتعهد لرئيس الوزراء بأنه سيقوم على مهام بأمانة وإخلاص، وسيولي موضوع الطائرة الميج 21 أهمية خاصة وزائدة من أجل اقتنائها في أسرع وقت.
كان عاميت أول رئيس للمخابرات العسكرية الإسرائيلية، يتولى رئاسة جهاز الموساد، لذلك فقد استبشر به بن جوريون خيراً، وتوقع أن يتحسن آداء الموساد على يديه، تعززه القدرة على التنسيق نتيجة خبرته، ودوره المزدوج في الموساد وأمان.
هذا أيضاً ما توقعه كبار رجال المخابرات والجيش. بيد أن الأمر لم يكن سهلاً تماماً أمام آميت، فهو أول رجل من خارج الموساد يتولى رئاستها، خاصة، وقد جاء بعد أيسير هاريل، الذي مكث أكثر من ربع قرن يجمع الموساد والشين بيت بين أصابعه، حتى أطلق عليه "بطريك المجتمع السري".
وفي مقر الموساد، لم يكن استقبال عاميت مطمئناً، فقد كان ما يزال يرتدي زيه العسكري الذي يعتز به، وفوجئ بهاريل بالمكتب يجمع أوراقه، فتصافحا في فتور، ثم خرج هاريل مكتئباً، بينما انهمرت دموع سكرتيراته الثلاثة. وواجه عاميت مأزرق الاستقالات الجماعية لأنصار هاريل، مستهلاً عمله في جو مشحون بالتوتر، والمرارة، ولكنه نشط في حماس في فتح ملف الميج 21، يملؤه إصرار عميق على إنجاز مهمته. . !!
خائن بالصدفةكان مائير عاميت مؤمناً بتسلسل القيادة العسكرية، فإذا ما سقط قائد في معركة أو رحل فإنه يستبدل على الفور. ومن هذا المفهوم، وجه ضربة عنيفة لأنصار هاريل الذين أظهروا سخطهم، ودفع بدماء حديدية داخل شرايين الجهاز السري، وطار الى أوروبا للتنسيق مع رجاله هناك.
وبينما كان بباريس، استقال فجأة رئيس الوزراء ديفيد بن جوريون، وتولى ليفي أشكول الذي كان وزيراً للمالية مكانه. وأبدى عاميت تخوفه للتغيرات التي حدثت، لكنه رأى في رئيس الوزراء الجديد رجلاً محباً لأعمال المخابرات، ولأنه يفهم الأمور المالية فقد خصص ميزانية أكبر للموساد، ومكّن عاميت بذلك من استحداث الكثير من معداته وأدواته، ومن الإنفاق باطمئنان على معامل البحوث الفنية، للارتفاع بمستوى التقنية في الجهاز، مستعيناً بالكفاءات من رجاله في "أمان" وضمهم الى الموساد، وبالوحدة "131" – ذراع العمليات المثلى لأمان – فضمن تنظيم هيكل الموساد بأسلوب مثالي جديد، استعداداً للمرحلة الحاسمة المقبلة، التي يتأهب لها في دهاء.
كان أيضاً بحاجة الى مكان أوسع.. لذلك نقل عاميت مقر الموساد الى مبنى حديث في وسط تل أبيب، واستعان بأجهزة كمبيوتر حديثة لتخزين المعلومات وتسهيل استدعائها، وعني بجمع المعلومات العسكرية والسياسية والاقتصادية عن الدول العربية، مستفيداً من طابور طويل من الخبراء في تحليلها، وبذل جهوداً غير طبيعية في البحث عن المتميزين من ذوي الكفاءات والمهارات، ليس في الجيش الإسرائيلي فحسب، بل في الأكاديميات، والجامعات، والمؤسسات، وفي عالم الفن والتجارة والصحافة، فأرسى بذلك الكثير من المبادئ، التي أسبغت على الموساد صفة الأداء الدقيق المنظم، وساعدت على أن تعمل شتى الأقسام بتخطيط علمي متقن.
وأمام رغبة القيادة السياسية، وإلحاح قائد سلاح الطيران، عيزرا وايزمان، في الحصول على الميج 21، وكانت وهي أيضاً رغبة القيادة السياسية في أمريكا، لم يدخر عاميت جهداً في إطلاع عملاء الموساد في كل من مصر والعراق وسوريا، وحثهم على ضرورة البحث عن طيار عربي لتجنيده.
وبعد مرور أقل من عام على تولي عاميت أمر الموساد، وفي انتظار تحقيق المعجزة، حدثت مفاجأة غريبة لم تخطر ببال.
ففي عام 1964، هرب الطيار المصري المختل عباس محمود حلمي الى إسرائيل، بواسطة طائرة تدريب سوفييتية قديمة من طراز (ياك 15) ذات مقعدين.
وبرغم خيبة الأمل التي أصابت الإسرائيليين بسبب نوع الطائرة، إلا أن الطيار المشوش العقل استقبل بحفاوة بالغة في إسرائيل، واستغل حادث هروبه (2) أسوأ استغلال في التشهير بالنظام في مصر، فقد ادعوا أن عباس حلمي هرب احتجاجاً على تدخل مصر في اليمن، وضرب القوات الملكية هناك بالغازات السامة، وبالأسلحة الغير مشروعة دولياً، مما أثر على أعصابه وعلى إيمانه بالقومية العربية، وبالعروبة.
أخضع عباس حلمي لاستجواب دقيق، وسئل مئات الأسئلة، ولم يكن بمقدوره ادعاء الجهل بأشياء كثيرة تتعلق بأدق التفاصيل عن الميج 21، فقد كان أحد طياريها، وأدرك بعد فوات الأوان، أنه ارتكب جريمة الخيانة العظمى في حق وطنه، لذا، فقد كان عليه أن يستغل معلومات العسكرية للحصول على الأمن والحماية أولاً، ولتحقيق أكبر عائد مادي ثانياً، بما يكفل له حياة مستقرة في وطنه الجديد.
لقد كانت لدى رجال الموساد شكوك حول العملية برمتها، وكبر لديهم هاجس تحسبوا له كثيراً، وهو أن المخابرات العسكرية المصرية ربما تقوم بخدعة كبرى، وأن إرسال عباس حلمي بطائرة عتيقة لا تساوي شيئاً، لعبة مهارية خارقة من المصريين، لتسريب معلومات مغلوطة عن الميج 21، تربك بها حساباتهم ومعلوماتهم "الغير يقينية" عن بعض أسرار الطائرة، ونقاط تميزها.
لذلك . . أعيد سؤال عباس حلمي ذات الأسئلة مرات ومرات، وحيرتهم كثيراً إجاباته الدقيقة التي لم تكن تتغير، ومع إصراره العنيد على أنه لا يقول إلا الصدق، عرضوه على جهاز الكشف عن الكذب.
وبينما الأسلاك الملتصقة برأسه وصدره تتصل بأجهزة رسم المخ، وقياس الذبذبات والنبض، كان ستة من الخبراء الفنيين دفعة واحدة يعكفون على استجوابه، فلا يكاد الواحد منهم يلقى بسؤاله حتى ينطلق آخر بسؤال جديد، وهكذا دواليك لمدة ساعتين ونصف الساعة، حتى تفككت قواه، وبكى بحرقة في يأس طالباً منهم أن يعيدوه الى مصر، فإعدامه هناك أرحم من العذاب الذي يلاقيه عندهم.
وما كان لهم أن يعيدوه ثانية الى مصر، وما كان لهم أيضاً أن يتيقنوا من صدقه مائة بالمائة، فبرغم الرسوم الكهرومغناطيسية للجهاز الأمريكي الصنع، والتي أثبتت أنه لا يكذب، قال بعضهم إن الطيار المصري ربما أعد إعداداً محكماً لتلك المهمة، وأنه قد دُرب عليها عشرات المرات قبل أن يبعثوا به اليهم.
لقد كانت دائرة الشكوك داخل الموساد تضيق وتتسع، ومع ذلك، فقد اعتبر عاميت فرار الطيار المصري ثروة هائلة، ستدفع ربما بأحدهم من طياري الميج 21 الى تقليده، والهرب بطائرته الأسطورية لإسرائيل وعلى هذا ترك مصير الطيار المذعور الى أن يقول الأمريكيين رأيهم النهائي.
وحينما تلقت الـ C.I.A. تقريراً وافياً بما تم التوصل اليه، حتى اتصل رئيس المخابرات المركزية (1) بعاميت، يطلب منه مساعدة فريق من الفنيين، سيبعث به الى تل أبيب لاستجواب الطيار المصري، واستبيان صدقه من عدمه.
كانت الـ C.I.A. هي الأخرى، تحمل قدراً كبيراً من الشكوك تجاه الحدث، وتعلقت بأذهان رجالها صور الخداع التي مورست بأساليب تمويهية خارقة أيام الحرب العالمية الثانية، وأيضاً التطور الشاسع لجهاز الاستخبارات السوفييتي، والذي قد يكون وراء العملية كلها، لأسباب استراتيجية بحتة، لإحكام إحدى العمليات المخابراتية مع نشوب الحرب الباردة بين الدولتين العظميين.
ومن مطار اللد في تل أبيب، اتجه فريق الفنيين الأمريكي الى مقر الموساد الجديد، حيث العشرات من خبرائها انعزلوا عن العالم المحيط بهم، وعكفوا على دراسة وتحليل كل كلمة تفوه بها عباس حلمي، ومراجعة قياسات جهاز كشف الكذب من جديد.
هكذا جيء بالطيار المصري فصافحه الأمريكان بود، وأوصلوا رأسه وصدره مرة ثانية بجهاز حديث استقدموه معهم، كان بحجم حقيبة السفر، وذو قياسات تحليلية أفضل. وسألوه مباشرة:
أي نوع آخر من الطائرات طرت بها بخلاف الميج 21 . . ؟
أجاب دون تردد:
السوخوي . . السوخوي الاعتراضية SU-9، والسوخوي SU-7B ذات المقعدين.
سُئل:
ما الفرق بينهما طولاً وعرضاً. . ؟
أجاب:
لا فرق في الطول بينهما فطول كلاهما 17 متراً، وأقصى عرض للأولى 8 متر، والثانية 9 متر، والجناح مسحوب للخلف.
سُئل:
ما تسليح السوخوي SU-9 من الصواريخ. . ؟
أجاب:
عادة صواريخ ANAB جو / جو، التي توجه رادرياً وبالأشعة دون الحمراء . . !!
سُئل:
بما تحلل تساوي مساحة الدرع الواقي من انفجار الطلقات على جانبي جسم الطائرتين. . ؟
أجاب:
السؤال به خطأ، ففي السوخوي SU-7B التي أنتجت مؤخراً زيادة في مساحة الدرع الواقي بجوار المدفع "وهذا يدل على أن المدفع المركب بها، إما أن تكون سرعة الطلقة عند فوهة الماسورة عالية، أو أن معدل كثافة النيران مرتفع جداً".
سُئل:
كم فرملة هوائية في كل طائرة. . ؟
أجاب:
فرملتان في SU-7B وأربعة فرامل في الطائرة SU-9 في أزواج على جانبي مؤخرة الجسم.
سُئل:
ارسم شكلاً لعدادات الطائرة السوخوي SU-9 مبيناً عدادا سرعة الانهيار بدون قلابات، وعداد معدل التسلق على مستوى سطح البحر.
وبعدما رسم أشكالاً مختلفة لعدادات الطائرة، وأذرع التشغيل، طلب منه أن يرسم الأشكال نفسها الخاصة بالميج 21، وتوضيح عدادات التحميل، وأذرع القنابل والصواريخ والمدافع، ومبيّنات الأجزاء الهيدروليكية، والرادار وخواصه التكتيكية والفنية، وهوائي الرادار وكيفية تلاشي الإعاقة، وزاوية تشغيله يدوياً وهيدروليكياً، وعمله في التفتيش والمسح الواسع، والمسح الضيق في نطاق 45 درجة، وكذا شاشة المرسل النبضي ومبينات الاستعداد للهجوم، ومقدمات القذف الصاروخي والتشغيل. وبتفصيل فني شديد طلب منه أيضاً رسومات توضيحية لمفاتيح المناورة الحادة، والاشتباكات الجوية والقصف جو / جو، وجو / أرض، ووضع الاقتراب الدقيق والتتبع، وتقنيات الشاشات الملاحية الرادارية والتليفزيونية، ورادار قياس الارتفاعات ووصف المبين، ولوحة البيان بأقسامها العشرة العلوية والسفلية، وشاشة الخطر.
وجاءوا به في صندوقهكذا عُصر الطيار المصري عصراً بواسطة خبراء الطيران في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد ستة ساعات تقريباً أنهوا استجوابهم، وأكدوا للإسرائيليين أنه من المستحيل أن يكون مدسوساً عليهم، فهو طيار ماهر جداً، وحاصل على دورات تدريبية عديدة في موسكو، ولا يمكن أن يضحي المصريون بطيار في خبرته، من أجل عملية مخابراتية خداعية.
وبإخضاع عباس محمود حلمي للتحليل النفسي بواسطة متخصصون، وجد أنه أصيب بصدمة عصبية حادة ، انهارت لها أعصابه وبلغت مرحلة الخور Asthenia، نتيجة انحدار Decline مقاومته وإرادته، أوصلت به الى حالة مرضية عقلية – يمكن علاجها – تسمى علمياً "تبدلات الطبع" Alterations in charator، وهي حالة تدفع المريض الى الاكتئاب والإهمال في العمل، وعدم الاهتمام بأسرته أو مظهره، وقد يرتكب سرقات خفيفة أو يستعرض نفسه.
. . بيد أن قصة هروب الطيار المصري الى إسرائيل، أشارت اليها في حينها بعض وسائل الإعلام العربية، المنحازة لإسرائيل، على أنها عملية مخابراتية بارعة، خططت لها الموساد في واحدة من أروع عملياتها، التي دفعت بها الى نهايتها. ورُوِّجت أقاويل شتى عن كفاءة المخابرات الإسرائيلية، التي تطول عملياتها عمق النسيج العربي، وتخترق إجراءاته الأمنية الصارمة.
ورد مسؤول مخابراتي إسرائيلي على تلك الأقاويل بالنفي القاطع، مؤكداً أن هروب عباس حلمي كان لسبب أيديولوجي بحت لا دخل فيه لإسرائيل، وأضاف معلقاً بأن الحكومات العربية تروج لشعارات قومية كاذبة، لا يصدقها عقلاء، لأن لا وجود لها على أرض الواقع، وأن إسرائيل هي واحة الديموقراطية في المنطقة، وأبوابها مفتوحة لكل إنسان حر شريف، يسعى الى حياة مطمئنة تفيض بالأمن والرخاء.
وقال المسؤول الإسرائيلي أيضاً، أن الطيار المصري والمئات غيره من المواطنين العرب، الذين اختاروا اللجوء لإسرائيل، يعيشون بين أهليهم في وطنهم الجديد في دعة واطمئن